متحف أم كلثوم: "أنساك؟ ده كلام؟"

  • تاريخ النشر: الأربعاء، 15 يونيو 2016 | آخر تحديث: الثلاثاء، 20 مارس 2018
مقالات ذات صلة
صلاح عبد الله يُحيي ذكرى رحيل أم كلثوم: يا قصة الأمس واليوم والغد.
كل ما تريدين معرفته عن متحف المستقبل الخيالي في دبي
روان بن حسين بعد أزمتها الأخيرة: حطوني في متحف
رشا عبدالله سلامة
 
    أنّى ولّيت وجهك في مصر ستجد ذاتك تخاطب "الست" بمقطع شهير لها، تتساءل فيه "أنساك؟ ده كلام؟". وعندما توطّن نفسك على المكوث في تلك البلاد، فعليك التعايش حينها مع فكرة أن "الست" موجودة حيثما مضيت، وبأنها ركن ثابت في الكيان المصري سياسياً ووجدانياً واجتماعياً وفنياً وتاريخياً، كله على السواء، من دون أن يتغوّل جانب على آخر.
 
لا يسعك حين تمضي في مصر سوى الشعور أن كل زقاق وحارة وشارع فسيح و"جنينة" و"كوبري" يعدّ متحفاً خاصاً بأم كلثوم؛ ذلك أن تجذّر "الست" أعمق بكثير من مجرد حصرها ضمن حدود مبنى يضم بعض مقتنياتها أو يرفع صوراً تذكارية لها.
 
تطالعك فاطمة البلتاجي في جلّ الوجوه المصرية، وتسمع صوتها من خلال حناجر المعظم، المتعلّم والأمّي، الثري والبسيط، المصري ومصري الهوى، بل ستتحسّس بيدك مجسّمات ومنحوتات كثيرة في الأسواق الشعبية، فتعرف سريعاً أنها على هيئة "الست" من دون حتى أن تمعن النظر.
 
إن استبدّ بك الشوق لأم كلثوم، فأول ما سيتبادر لذهنك بيتها القديم الذي تحوّل لفندق يحمل اسمها في منطقة الزمالك. سيواجهك تمثال كبير للست، وسترفع عينك نحو المبنى الشاهق، فتجده لا يشبهها كثيراً؛ لاتخاذه طابعاً تجارياً نوعاً ما، وإن كان يُحسب له إحياء اسم الست على ضفاف النيل، وفي واحدة من أكثر المناطق أناقة. بيد أن ثمة ركن قصيّ بوسعك الاختلاء فيه مع فاطمة البلتاجي ومناجاتها بهدوء.. إنه متحف أم كلثوم التابع لقصر "المانسترلي" في منطقة المنيل، وتحديداً جزيرة الروضة. 
يطلّ المتحف، التابع لوزارة الثقافة المصرية والمُدشّن في العام 2001، على فرع رائق من النيل، تربض فيه بعض المراكب العريقة. تخطو أولى خطواتك وسط الاخضرار الكثيف، فيما تحضر في ذهنك أغنية "الست" وهي تصف النيل قائلة "يا مسافر على بحر النيل، أنا ليّا في مصر خليل.. من حبّه ما بنام الليل، على بلد المحبوب ودّيني".. 
 
صوت أم كلثوم، المولودة في العام 1898 في الدقهلية، يصدح في الأرجاء، مُسلّماً إياك لمبنى أنيق تتدلّى على بابه غصون أشجار معمّرة. أول ما سيواجهك، صورة "الست" إلى جانب الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات.. ستستذكر جيداً، لا سيما إن أوغلت لقسم النياشين وشهادات التقدير المهداة لها من زعماء مصر بدءاً من الملك فاروق وليس انتهاءً بالسادات وغيرهم من زعماء على امتداد العالم العربي، أن تلك الأنظمة الملكية والعسكرية التي تعاقبت على حُكم مصر، استطاعت، برغم المثالب، إسباغ شرعية فريدة على ذاتها، من خلال اعتماد "الست" أيقونة فنية لها في الحفلات الملكية وأعياد الثورة وغيرها من مناسبات حربية، وليس بثيمات عسكرية بالضرورة، بل بأكثر كلمات الحب انسيابية ونعومة. أمور ثلاثة ستتجلّى لك حينها: كان التوجّه السياسي العام للدولة متوائماً مع التوجّه الشعبي والفني، وكان السياسي ذكياً في اعتماده بعض الفنانين والمثقفين الذين لا يُشق لهم غبار وبذا كان ينجو بنفسه من مأزق التشكيك بالشرعية، ولو آنياً، وكان ينجو بالفنان من مأزق الانتقاد حين يتساوق موقفه وموقف السُلطات؛ ذلك أن وهج الموهبة أقوى بكثير من أي اعتبارات أخرى. إلى جانب كون هذا التساوق يشي بأهداف أكبر وأسمى بكثير من التملّق، بل مساندة المجهود الحربي وتخصيص ريع الحفلات الشهرية فائقة النجاح للنهوض من الهزيمة.
 
ستقف قبالة "فاترينا" زجاجية يطلّ منها وشاح "الست" الأحمر الشهير، وستمضي لـ"فاترينا" أخرى تضم أطيافاً من قفازات "الست" الحريرية والجلدية، وفساتيها التي أتت بألوان وتصميمات شتى قد تشعرك بالدهشة؛ ذلك أن قوام أم كلثوم ناعم رفيع وفقاً لما يظهر من مقاسات هذه الفساتين، فيما الكاميرا التلفزيونية تكسبها وزناً زائداً، يجعل من أمامها يشعر بمزيد من الرهبة. تصميمات فساتين "الست" أنيقة ورائقة وساترة ولم تخرجها يوماً من حدود الجلابية الريفية التي غنّت فيها أوائل موشّحاتها في الموالد، وإن تغيّرت الخامة لاحقاً لحرير ودانتيل وتل.
 
نظارات أم كلثوم الشمسية وجوازات سفرها العادية والدبلوماسية والهلال الماسي الذي كانت تتزيّن به وأحذيتها وحقائبها، كلها ستتمدّد أمام الزائر بدلال يستوقفه طويلاً. الصور التذكارية، مفكرتها التي تزدان بخطّ يدها، قائمة الكلمات الفرنسية المترجمة للعربية، التي كانت تهمّ بحفظها وتعلّمها، وصفحات أخرى رتّبت عليها "الست" برنامج الأغنيات التي ستؤديها خلال حفل ما. إلى جانب هذا كله، ستطالعك كلمات أغنياتها المكتوبة بخط شعراء مثل أحمد رامي وأحمد شفيق كامل، والتي تظهر فيها اليد المرتجفة التي كانت تخطّ برهبة أغنيات تاريخية عابرة للقارات، مثل "حيّرت قلبي معاك"، و"ليلة حب" و"إنت عمري". 
 
يضمّ المتحف، الذي يمتدّ مبناه على مساحة 250 متراً، صالة سينمائية تعرض نبذة عن أم كلثوم لمدة لا تقل عن خمس وعشرين دقيقة، ومكتبة صوتية وفيلمية لأعمالها الفنية ومسيرة حياتها، بالإضافة لأرشيف صحفي يضم كل ما كتِب عن "الست" في حياتها وبعد رحيلها في العام 1975، لتعود لذلك الفرع النيلي الرائق الذي يطوّق المتحف، ولتغمض عينيك من جديد وتتساءل على لسان "الست"، مخاطباً إياها: "أنساك؟ ده كلام؟".