محاولةٌ ناجحة

  • تاريخ النشر: الثلاثاء، 18 أغسطس 2015 آخر تحديث: الأحد، 06 فبراير 2022
محاولةٌ ناجحة

(1)
اندفع (سالم) إلى المعمل لاهثًا وهو يمدّ يده بعقارٍ ما إلى (رياض) قائلًا وحبيبات العرق تنضح على جبينه:
يا إلهي.. ساعتان في زحمة المواصلات والطرق، لا أكاد أصدق أنني سليم معافى.!
ضحك صديقه (رياض) قائلا:
لا عليك يا بطل، هيا لنكمل ما بدأناه.
وأخذا يعملان بجد واجتهاد، فكلّ عملهما يدور حول شمسٍ واحدة، هي اكتشاف العقاقير المضادّة للفيروسات الحديثة والقاتلة التي تهاجم جسد الإنسان..
وسرقهما الوقت عن غفلةٍ منهما، لم يفتقدا طعامًا يبقيهما بوعيهما، إلا عندما انتبها للشمس التي غابت منذ فترة..
هتف (سالم): آه، أنا جائع يا (رياض)..
(رياض): نعم يا (سالم) لو لم تكن ذكّرتني بذلك لما تذكرتُ قبل أن أقع أرضًا !
(سالم): هيا إذن..
ابتسم صديقه ابتسامة متعبة، وهو يعيد أدواته إلى أمكنتها، ثم يغسل يديه بذلك المحلول الخاص، وكذلك فعل رفيقه ومن ثمّ خرجا لأقرب مطعم..
كان المطعم المفضّل لهما منذ دراستهما الجامعية !
جلسا حول المائدة المستديرة بجوار النافذة المطلّة على الحديقة المجاورة، مشهد يداعب خيال كل متخيّل ويغسل نفس كل حانق أو مهموم..
تناولا طعام الغداء بنهم بعد طول جوع، بدأ (رياض) الحديث:
-    هل تعلم يا (سالم) ، همممم، أنا أفكّر في الزواج...
-    مبااارك يا صديقي، من تكون العروس؟
-    إنها ابنة الصديق المشترك لوالدينا (هناء).
-    (هناء) ابنة العم (محسن) لا غيرها؟
-    هي بعينها!
-    ولكنها..
-    أعلم. أعلم يا صديقي لكنها تستحق كل خير.
-    وكيف ستعيشان معًا ؟
ضحك (رياض) وقال بسخرية: كما يعيش كل الأزواج !
ثم سحب ابتسامته وقال بجدية: لا أدري، أنا أفكّر بعد في علاج لها منذ زمن، تصوّر يا صديقي أنها في آخر مرة حدثتني قالت: أودّ لو أرى نفسي مرّة واحدة، كي أعرف كيف تراني !
-    وماذا قلت لها؟
-    ماذا تظنني قلت؟ واسيتها طبعا دون أن أشعرها بالشفقة، قلت أنني أراها وهذا يكفي، قالت لي: أنت عينيّ يا (رياض)..لا تتخيّل كم تأثرتُ، لكنها لم ترني لحسن الحظ، وإن شعرت بي.
-    لا عليك يا صديقي، ستجد حلا إن شاء الله.
-    كيف؟
-    لا أدري، لكن قلبي يحدثني أنك ستفعلها!

(2)

دخل (سامي) والد (رياض) إلى مكتب صديقه (راشد)، فنهض الأخير مرحبا وقال:
-    مرحبا سيد (سامي). في موعدك تماما.
-    بالتأكيد (راشد) بك! وأشار إلى الرجل الجالس على الأريكة شاردًا كأنه لا يراهما: ما بك يا أبا (محسن)؟
-    لا أخفيكما سرًا يا صديقيّ، إنها ابنتي، صحيح أنها لا تشكو مما بها لكنني أشعر بما في داخلها.
ذهب إليه (سامي) وجلس بجواره قائلا:
-    لا تخشَ شيئًا يا (محسن)، ابني (رياض) يحاول جادًا في هذا الشأن، ويصرّ على العثور على دواء لدائها مهما كان الثمن.!
-    غمغم (محسن) والعبرة تكاد تغلبه: أتمنى أن يوفقه الله لذلك.
وبعد سنوات من هذا اللقاء، حدثت خلالها أحداث كثيرة، تزوجت شقيقة (رياض) وكذلك شقيقتا (سالم)، وذهبت كلّ واحدة لبيت زوجها، ولم يتبق سوى (رياض) و(سالم) صديقان حميمان كما كانا أبدًا..
ولا ننس أنهما كانا ولا يزالان يعملان في معمل للبحوث عن كل ما ينقذ البشرية من الوقوع في ظلمات الأوبئة والأمراض..
وقد كان لهما الفضل بعد الله تعالى في اكتشاف عقار جديد لشلل الأطفال، وقد منحتهما الدولة وسام العلوم لأجل ذلك، وأضحى اسماهما لامعا في مجال البحث والابتكار.
وفي يومٍ صحو من أيام الربيع، دخل (سالم) على صديقه (رياض) وكان وحيدًا يجرب شيئا ما، بدأ (رياض) الحديث دون أن يلتفت: مرحبا (سالم).
قال (سالم) مندهشا: كيف عرفت أني القادم؟
التفت (رياض) هذه المرة لصديقه وابتسم غامزًا: لنا أكثر من عشر سنوات معا ولا تريدني أن أعرف؟ أنا أشمّ رائحتك يا صديقي !
ضحك (سالم) ملء فيه، وهتف: فعلا.. يبدو أنني أصبحت مجرّد عقار آخر بالنسبة لخلايا أنفك!
بادله (رياض) الضحك لفترة وجيزة، ثم اكتسى وجهه بالجديّة، فهتف به (سالم): ما الأمر؟
-    لقد اكتشفتُ عقارًا جديدًا وأريدُ أن أجربه.
-    وماذا تنتظر؟ لحظة واحدة سأجلبها لك.. ثمّ ولّى كي يخرج من الباب فقفز إليه (رياض):
-    ماذا تريد؟ إلى أين تظنّ نفسك ذاهبًا؟
-    سأحضر لك دستة فئران تجري عليها ما تشاء من تجاربك. !
-    كلا...هذه المرة تختلف..
-    كيف؟
تألقت عيناه قائلا: لابدّ أن نجربها على بشر، على أناس يا صديقي..
بَدَت ملامح القلق على (سالم) وقال: ولكن، لم تخبرني عن كنهها بعد ؟
-    إنها تحتاج إلى شخصين، أريد واحدًا معي.
-    أنت تعلم أنني لن أتأخر عنك في شيء يا رفيق، لكن أخبرني متى بدأت فيها؟ وما جدواها؟ وما تأثيرها وهل هي لأنفلونزا الطيور أم ماذا ؟ سمعتُ أن المركز الأوروبي بصدد اكتشاف واحد هو الآخر..
-    لقد بدأتُ فيها منذ خمسِ سنوات تقريبًا، لم أشأ أن أخبر أحدًا إلا بعد أن أتأكد من نجاحها..
قاطعه (سالم) : ولا أنا ؟
-    اعذرني، ولا أيّ شخص.
-    أكمل إذن.
تنهّد (رياض) وتابع بصوت واهن وعيناه نصف مغمضتين:
أبدًا، تعبتُ كثيرا حتى وصلت لشكل العقار النهائي وتركيبته، واعذرني لا أستطيع أن أخبرك شيئًا الآن، كل ما أستطيع قوله هو طمأنتك على أن الأضرار بسيطة حسب دراساتي، وأنه لو حدث شيء فيمكن استخلاص العقار المضادّ في وقت يتيح إنقاذنا..
وفتح عينيه وقال لصديقه: ما رأيك ؟
جلس (سالم) على أريكة مريحة، أسبل جفنيه وغمغم: أنت تعلم يا صديقي أنني معك دائمًا.. موافق.

وبدأت القصّة....

(3)

بعد أسبوعين من الأحداث الأخيرة جاءت برقية لـ (سالم) تعرض عليه العمل في معمل الدكتور (عادل)، أشهر عالم في البلد؛ استشار صديقه في الأمر، ولمّا وجده مرحّبا بشدة خاصّة أنه يمكنهما التعاون مع مركز أبحاث الدكتور (عادل)، قرر أن يقبل.
ذهب (سالم) إلى هناك لا يحمل همّا سوى عمله، دخل المركز ليرى الدكتور (عادل) فإذا بسكرتيرة حسناء تسأله بهدوء أن ينتظر قليلا، وبينما تدخل لتخبر مديرها يهزّ رأسه بقوة، أين رآها من قبل؟!
عادت مبتسمة تخبره أن البروفيسور في انتظاره، وعندما رأت عينيه مستقرّة عليها رفعت صوتها أكثر وهي تشعر بالحرج:
- الدكتور (عادل) في انتظارك يا فندم.
-    أ أ.. أنا داخل.
ودخل عند الدكتور (عادل)، ولم يعلم كيف سارت المقابلة الأولى، لم تفارق عيناه صورة (إيمان).. مهلا !!
كيف عرف اسمها؟ إنها المرة الأولى التي يراها فيها..تبًّا..عقله يكاد ينفجر من الدهشة... والعجب.
وعندما خرج وجدها تعمل على جهاز الحاسوب وقال لها:
-    (إيمان) ؟
لم تندهش لأنه عرف اسمها، بالتأكيد أخبره به البروفيسور، لذلك ابتسمت قائلة: أيّة خدمات ؟
توتر ولم يجد ما يقوله ولكنه سأل: هل تعرفينني ؟
هزّت رأسها نفيا ببطء ولكنه أعاد: أمتأكدةٌ أنتِ ؟
أجابته: يا سيد (سالم)، أنا لو أعرفك لما نفيتُ معرفتي بك، فأنت عالم مشهور ويتشرّف أيّ أحد بمعرفتك.
تمتم: أشكرك..
واندفع تكتنفه الحيرة، والشعور بالحرج ..
لم يعرف بعدها كيف وصل إلى المنزل سالمًا، لابد أن والدته كانت تتذكر يومًا كهذا عند تسميته!!
كيف عرف اسمها؟ ربما أخبره المدير به، نعم بالتأكيد ذكره أمامه، أو لابد أنه رأى غيرها ولكنه ظنّها إحدى اللاتي رآهنّ من قبل، النساء تتشابه على كل حال.
هل رآها في أحلامه الفتيّة؟ ما هذا السخف!
أبدل ملابسه وخلد للنوم، من الغد سيبدأ العمل الحقيقي، الدكتور(عادل) بصدد البحث في علاج قاطع لمرض أنفلونزا الطيور، سيتعب كثيرًا في قراءة المستجد في هذا الأمر في كل المراجع العلمية، و ..
لا يريد أن يتذكّر أكثر لذلك..غلبه النوم.

(والدي سامي)
(فتاتي هناء)
صور... صور وحسب، صورة (هناء) ، صورة (رياض) بجوارها يحدثها وهي تنظر لعينيه دون أن تراهما، صورة والد كل منهما يدخل فتذهب (هناء) مع والدها بعد أن ودّعت خطيبها!
(محادثات هامسة في الهاتف)
-    اشتقت إليك (هناء).
-    وأنا أيضًا..أين أنت الآن ؟؟
-    أنا في (طوكيو)، ها هو (سالم) يرقد بجواري، سوف نأتي مع طلوع فجر بعد الغد، لا تنسي أنني أحبك !!
-    لم أنسَ هذا قط...انتبه لنفسك.
-    بل أنتِ التي تنتبه لنفسها..من أجلي.
-    سأفعل.
و ...
- لقد ماتت أمك يا (رياض).
- كلااااااااااا
(4)
استيقظ (سالم) مذعورًا، ما هذه الصور والكلمات؟ كيف جاءت لعقله؟ لن يجد تفسيرا إلا عند صديقه..
-    من؟
-    أنا (سالم) يا (رياض) أريدك أن تأتي حالًا..
-    ولكنني مازلت نائمًا .!
أجابه بصوت أقرب للصراخ المذعور: استيقظ يا أخي وتعال حالا.
-    حسنًا، ها أنا أصحو..
-    جيد، نصف ساعة وأريدك عندي..
وبعد نصف ساعة تمامًا..
-    هيا ادخل بسرعة..
-    ماذا هناك أخبرني؟
-    اجلس!
-    ها قد فعلت !
-    منذ عدة أيام بدأت أحلام غريبة تراودني، آخرها أمس، بدأت أتذكر أشياء لم تحدث لي قط، وأفعالا لم أفعلها، وأقوالا لم أتفوّه بها، لقد تصوّرت أنك تلبّستني !! هل تعلم أنني لا أستطيع أن أفهم شيئا؟ إنني أتذكر ... حسنا، إنها تصل لتذكر أشياء خاصة بك أنت يا (رياض)، أشياء خاصّة جدًا..
ابتسم (رياض) حتى بدت نواجذه وقال لصديقه مطمئنًا:
-    هوّن عليك يا صديقي، ليس بالأمر ما يخيف.
-    ماذا ؟ (يصرخ) ثم يستطرد: وتضحك أيضا ؟ أريد تفسيرًا لكل شيء، والآن ..
-    اجلس واهدأ وسأخبرك كلّ شيء...
قال (رياض): منذ خمس سنوات وأكثر رأيت اليأس أمامي، لم أستطع أن أفعل شيئًا لأفيد خطيبتي، الفتاة التي ملكت قلبي، لكن عقلي رفض الاستسلام لليأس، وكان حماسي هذا هو سلاحي، لقد قرأتُ جميع الكتب والمراجع، القديم منها والجديد، عن علّتها وعن جميع أمراض العيون، ولما وجدت أنه ميؤوس منه فعلا، جمح خيالي ولم أستطع كبح جماحه، لقد راودتني أفكارا وهواجس شتى، وبعد سنة من التفكير المرهق، رأيت أن أفضل ما أفعله هو صنع عقار ما... وجاءتني الفكرة المجنونة، أمنحها ذكرياتي، كيف؟؟هي التي منحتني الفكرة دون أن تشعر، قالت لي يومًا: إن ذكرياتنا واحدة يا (رياض)، ولم تُمحَ هذه الكلمة من عقلي، قالت أيضًا: أنت ذكرياتي كلها رغم أني لا أرى صورًا إذا أردت استرجاع تلك الذكريات، كل ما أراه هو السواد..
وكانت الجملة الأخيرة تحديدًا كالبرق الذي أصاب شيئًا في عقلي فأعْمَلَه، بدأت دراساتي على الفور، واستغرقت فيها كما رأيت، فشلتُ عشرات المرات، ولكنني لم أيأس، أنت تعلم أنني أكره أن يتحداني أحد، بخاصّة المرض، وكنتُ متيقنا أنه ما من داء إلا له دواء، وكان هذا دافعي الأقوى لأتيقن أن لدائها دواء..
وكنتُ مجرّد الباحث عن هذا الدواء..
صنعتُ العقار والمصل المضاد، وأخذته أنا وأنت، وبالطبع حدث لي ما حدث لك، حتى حادثة (إيمان) التي أخبرتني بها، كانت من تأثير العقار، لأنك برؤيتك لها وأنت تحمل ذكرياتي الماضية شعرت أنك تعرفها، وهذا طبيعي، فقد كانت معي في الجامعة قبل أن أعرفك، وكانت زميلتي المقرّبة، إذن أستطيع أن أقول أن العقار قد نجح، واندفع لصديقه يعانقه ويقبله تسابقه دمعات فرح تسللت من عينيه..
-    هل عرفت إذن سبب ضحكي؟
صمت (سالم) وهو ينظر لصديقه، ثم انفجر وهو يعانقه:
-    تبّا لك ولشياطين مخّك.. من أين أتيت بهذه الأفكار ؟
-    أبدًا ! من شياطين مخّي فقط !
وأخذا يضحكان معًا..
فجأة سأل (سالم): وماذا بعد ؟
- ماذا بعد ماذا ؟
- كيف سأستعيد ذكرياتي المفقودة؟ لقد لعب عقارك بمخي ألذلك طلبتَ مني أشياء غريبة كعينة دم وأجريتَ تلك العملية ونحن في (طوكيو) ؟
- نعم، والعملية التي فعلتُها ستساعد على الفصل بين ذكرياتي، وذكرياتي التي سأمنحها لـ (هناء)، كان الدكتور الذي قام بعملها هو الوحيد المطلع على تجاربي من أولها لآخرها، كنتُ بحاجة لخبير..
- آآخ يا خائن، ولم تخبرني أنا، قل لي كيف سأستعيد ذاكرتي؟ أنا لم أقم بأية عمليات؟
- ستتناول المصل المضاد.
- كيف؟
- بوساطة فمك !
- هاها، ظننته شيئا آخر، ظريف فعلا ولكنك عبقري، بهذا سترى (هناء) أباها وأباك وأنت بالطبع، وسترى نفسها من خلال ذكرياتك عنها، هذا رائع فعلا..!
- أشكرك يا صديقي، المهم أن تنجح العملية، كل ما علينا فعله أن نفكّر بجنون !
تعانق الصديقان فرحين، ثم قررا الاحتفال !

الختام

بالطبع هذه نهاية القصّة، ربما لم تَرُق لكم، ولكنها حقيقية، كلها حدثت في أرض الواقع وكنتُ شاهدًا على فصولها..
ما زلتم لا تصدقون؟ هذا شأنكم! يكفيني أن ابنتي أصبحت تصف شكلي، وشكل حفيدتي الرائعة هذه، وأضحت تمشّط شعرها بنفسها وتقف أمام المرآة طويلا، كم هي جميلة حقّا !
هل صدقتم الآن؟
تبّا لكم !
إنها الآن في المطبخ تعد الطعام، اذهبوا إليها وراقبوها بأنفسكم، لربما أقنعكم ذلك!
 

ليالينا الآن على واتس آب! تابعونا لآخر الأخبار