كيف تتحول الصداقة إلى حبّ

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الأربعاء، 14 فبراير 2024
كيف تتحول الصداقة إلى حبّ

كثيراً ما نسمع عن علاقة صداقة تنتهي بالحبِّ، وربما الزواج، كما نجد بعض الأصدقاء من نوعين مختلفين (ذكر وأنثى)، تكون صداقتهما عميقة، إلى درجة تجعل المحيطين بهم يتحدثون سرّاً عن حبٍّ يجمعهما.

كذلك قد نواجه حالاتٍ يطلب فيها الأحبة من بعضهم، أن يتراجعوا خطوةٍ إلى الوراء باتجاه الصداقة، فيقول الشاب أو الشابة (لنبقى أصدقاء)، إنَّها حالات تواجهنا في حياتنا اليومية، لكن ما هو الحبُّ، وما هي الصداقة؟ وكيف يفضي أحدهما إلى الآخر؟

مشاعر المحبة والكره هي التي توجه السلوك الإنساني وفق فرويد

في تقسيمه الشهير للغرائز عند البشر، أشار صاحب مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد إلى غريزتين رئيسيتين تحركان السلوك البشري وتتحكمان به، حيث يمكن الربط بين الأفعال والمشاعر وبين هاتين الغريزتين بشكلٍ مباشر، الأولى غريزة الحياة، والثانية غريزة الموت.

أما غريزة الحياة (Life Instincts/ Eros)، فهي التي تحرك رغبة الإنسان على البقاء، فكل السلوك البشري الذي يهدف إلى البقاء، والحفاظ على النسل مرتبط بغريزة الحياة، حيث يعتبر ميل الإنسان إلى الاجتماع، وبناء العلاقات الاجتماعية المختلفة، إضافة إلى الحفاظ على الصحة البدنية، وتجنب الآلام، والغريزة الجنسية، والحبُّ.

كلها تأتي من غريزة الحياة، فيما ينتمي إلى غريزة الموت (Death Instincts /Thanatos) الشعور بالكراهية، والرغبة في الفناء والتدمير، كما أنَّ فرويد وغيره يشيرون إلى تفوق غريزة الحياة عند الإنسان على غريزة الموت، لكن لمَ هذه المقدمة؟.

نظرية فرويد هذه، والتي ما زالت معتَمدةً بشكلٍ كبير في التحليل النفسي، على الرغم من وجود اعتراضاتٍ كثيرة حولها، لكن من خلالها يمكن أن نفهم رغبة الإنسان الدائمة في تطوير العلاقات الإنسانية، ابتداءً بعلاقته بمحيطه الإجباري، أي العائلة التي يجد نفسه ضمنها مرغماً، ثم علاقاته بمحيطه الذي يختاره بنفسه مثل صداقاته وعلاقاته الغرامية.

لذلك تشكِّل الحقائق المتصلة بطبيعة هذه العلاقات، أكثر القضايا التي تثير اهتمام الناس، لأنَّ النجاح أو الفشل في العلاقة - مهما كان نوعها - سيكون له تأثيره الكبير على الحياة، خاصةً عندما نتحدث عن العلاقات العميقة، مثل العلاقة مع الوالدين والأخوة، علاقات الصداقة، إضافة إلى علاقة الحبِّ بكلِّ تأكيد.

ويبقى السؤال الجوهري هنا؛ هل يستطيع الإنسان أن يحصل على ما يريده من العلاقة العاطفية أو الاجتماعية إن لم يعرف الفرق بين تطورات هذه العلاقات وتسلسلها؟ نعتقد أن ذلك شبه مستحيل.

إنَّ الحصول على جواب سؤال "ما هو الحب؟" مهمة شاقة

تخيلوا معي كمية الكتب، والروايات، والأفلام، إضافة إلى القصائد، والأساطير، والدراسات والأبحاث، التي حاولت منذ آلاف السنين، أن تفسر معنى الحبِّ!، فلو اكتشف القدماء أسرار الحبِّ، لما اضطررنا لقطع آلاف الأشجار سنوياً لصناعة الورق، وطباعة الكتب التي ستتحدث عن الحبِّ.

كما أنَّ عجز الإنسان عن إيجاد قواعد ثابتة لعلاقة الإناث بالذكور عبر التاريخ، يجعلنا نجد الكتَّاب والأدباء والباحثين المتخصصين في هذه الشؤون ينشرون أفكارهم بيننا، فلو تمكَّن الكتاب الهندي القديم كاماسوترا (Kama Sutra)، الذي يتحدث عن الحب والعلاقات الجنسية.

من إيجاد ضوابط فعلية للعلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، لما كنت ستسمع برواية (نسيان com) لأحلام مستغانمي على سبيل المثال لا الحصر، لذلك نقول أنَّ إيجاد الجواب على سؤال (ما هو الحبّ؟) مهمة شاقة، تشبه البحث عن إبرة في كومة قش، وبعد أن تنتهي من البحث في القش، تكتشف أنَّ أحدهم رمى الإبرة في النهر، وعلى الرغم من ذلك، لن نتجاهل السؤال الكبير، ما هو الحبُّ؟

التعريف العلمي للحبّ

يقول الدكتور (J. Richard Cookerly) أنَّ كثيراً من الناس، يخافون من التعريف العلمي للحبِّ، لأنَّهم يخافون من زوال هالة الغموض التي تحيط بمشاعرهم، والتي يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من متعة الحبِّ، لكنَّه في نفس الوقت، يطمئننا أنَّ العلم على الرغم من التفسير شبه الدقيق للحبِّ، لم يتمكن من إزالة الغموض، وكل ما يمكن أن يقدمه العلم في هذا المجال، هو أنْ يساعدنا على فهم بعض الجوانب، والحقائق المتصلة بشعور الحب، جسدياً، ونفسياً.

ويرى الباحثون المشاركون في الدراسة، أنَّ الحبَّ مؤلف من عدة عناصر مادية، وتفاعلات كيميائية وكهربائية في الدماغ والجسد، في حالة وقوعها بترتيب معين، في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، يمكن أن تؤدي إلى الحب الحقيقي.

ولن نخوض هنا في التفاصيل الدقيقة للعملية الكيميائية البيولوجية التي يقوم بها الجسم أثناء الشعور بالحبِّ، بل سنكتفي بوجود هذا التعريف، وإقرار أغلب الباحثين بعجزهم عن التوصل إلى تفسير متكامل ونهائي، ومتفق عليه بين المختص النفسي والبيولوجي، والذي يؤدي إلى تعريف الحب.

وجهة نظر في الحب

كيف سنفسر هذا العجز؟ يرى الباحثون في السلوك الإنساني أنَّ الحبَّ لا بد أن يمرَّ بمراحل ارتقائية، تبدأ باللقاء الحيادي، أو ربما مشاعر الإعجاب من اللقاء الأول، ثم وجود سلسلة (طويلة أو قصيرة) من اللقاءات، التي تساعد على انتقال المعرفة والمعلومات والتفضيلات بين طرفي العملية، إضافة إلى اختبار ردّة الفعل تجاه مواقف معينة، ولنقل أنَّ هذه المرحلة هي الصداقة.

 ثم تأتي المرحلة التالية، وهي الإعجاب المتقدم بالطرف الآخر، الذي يمهد الطريق أمام الدخول في المرحلة الأكثر تعقيداً، الحبّ، حيث يرفض معظم الباحثين، ومن بينهم من ذكرناهم سابقاً، فكرة وجود الحب موضوعياً، دون علاقةٍ تطورية، بغض النظر عن مدتها، لكنها لا بد أن تمرَّ بمراحل ارتقائية، كما يمكن اعتبار علاقات الحبِّ في المراهقة، والحبِّ من النظرة الأولى، والحبُّ الهستيري للشخصيات المشهورة كلُّها خارج الإطار الطبيعي للحبِّ، وتمثل تعبيراً عن عقد واضطرابات نفسية، طبيعية أو مرضيَّة.

كما أنَّ هذه العلاقات قابلة إلى أنْ تتحول إلى حبِّ صادق، بعد مرورها بمراحلها التطورية، فالحب من أول نظرة، غالباً ما يكون متأثراً بالقصص الرومانسية والأفلام السينمائية، لكنه إذا انتقل إلى خطوة التعارف، سيمر بالمراحل الارتقائية السابقة.

ما الفرق بين الحب والصداقة؟

وهنا بيت القصيد؛ فالصداقة من القيم الإنسانية السامية، التي تؤثر في بناء شخصية الإنسان على المدى الطويل، ولا نبالغ إذا قلنا أنَّ علاقة الصداقة التي تجمع شابين أو شابتين، ستكون أكثر متانةً من علاقة الحبِّ في أغلب الأحوال، لأن الصداقة ببساطة أكثر وضوحاً وأقل تطلباً، فضلاً عن هوامش الالتزامات الضيقة في الصداقة، والواسعة في الحبِّ.

 كما أنَّ الحبَّ عبر تطور مفهومه التاريخي يغرق في الرومانسية، على حساب الجوانب العقلانية والجسمانية، بينما تعتمد الصداقة على معطياتٍ أكثر واقعيةً وشفافية، هنا لا بد من ذكر ملاحظة ذهبية؛ "إذا مرَّ الحبُّ بمراحله التطورية الطبيعية سيكون صداقةً من الطراز الرفيع، أو مرحلةً فائقة التطور من الصداقة"، مما يخفف من الأزمات العاطفية المتعلقة بالإغراق في الرومانسية، ورسم سيناريو مسبق لعلاقة من النوع الممتاز.

لنكن واقعيون، الصداقة بين شخصين مختلفين بالنوع، هي احتمال مفتوح على الحبِّ، والخطأ الكبير الذي يقع فيه البعض، هو تجريم الصداقة بين الذكور والإناث، على اعتبار أنَّها ستؤدي بالضرورة إلى مشاعر عاطفية متأججة، وهذا ادِّعاء باطل، فالصداقة علاقةٌ مؤهِّلةٌ للحبِّ، لكنَّ الحبَّ ليس نتيجةً مطلقةً للصداقة.

 مثال؛ السارق هو شخص يفتقر إلى الأمانة والروادع، فإذا كان موظف البنك يفتقر إلى الروادع والأمانة سيكون سارقاً، لكن ليس كلُّ موظفٍ في بنك سارق، على الرغم من أنَّ جميع الموظفين يتعاملون مع مبالغ خيالية من النقود، تفوق دخلهم بملايين المرات، وبشكل يومي.

لكنَّ أحدهم يختلس، والآخر ينتظر مرتبه في نهاية الشهر، لذلك نقول أنَّ السارق يمتلك صفة خاصة فيه، إذا توفرت له الظروف، خرجت صفته إلى حيز التنفيذ، لكن البنك ليس مكاناً للمختلسين، أي أنَّ الصداقة توفر البيئة الملائمة لتطور العلاقة العاطفية بين شخصين، باجتماع سلسلة من الظروف الملائمة لكليهما، لكنَّ هذه الظروف لن تجتمع للجميع، والصداقة ليست وسطاً إجبارياً للحبِّ.

هذا الفرق بالمفهوم؛ أما الفروق العملية يمكن إيجازها بأمرين رئيسيين، الأول هو الرغبة الجنسية، التي يعزِّزها الحبُّ ولا تعزِّزها الصداقة، وثانيها هو المستقبل المشترك، أو الارتباط بالمصير؛ فالأصدقاء مهما بلغ تقاربهم يعود كلٌّ منهم إلى بيته ويعيش حياته، فيكون صديقه/صديقته جزءاً من هذه الحياة.

لكن عندما يبدأ التفكير بمستقبل مشترك وحياةٍ مشتركة فهذا انعكاس مباشر من الصداقة العميقة إلى الحبّ، إضافة إلى بعض الإشارات الأخرى، التي يمكن تتبعها دون اللجوء إلى كتالوج، مثل الشوق المبالغ فيه، والشعور بالغيرة، إضافة إلى الشعور بالأمان من نوع خاص، وإحساس الاستقرار النفسي والعاطفي أثناء وجود الطرف الآخر، وهي مشاعر تعرفها الصداقة بحدودها الدنيا، بينما يكتشفها المحبُّ بحدِّها الأقصى. 

هل يتحول الحب إلى صداقة؟

نظرياً؛ يمكن أن يتحول الحبُّ إلى صداقة، بغض النظر عن عمق هذه الصداقة، لكن عملياً؛ يتوقف ذلك على أسباب الانسحاب من الحب، إضافة إلى المرحلة التي وصل إليها الشريكان، فلا يمكن التعامل مع حالة الانفصال بعد الزواج، كحالة فسخ الخطوبة، أو كحالة الفراق قبل اتخاذ خطوات عملية في تطوير العلاقة، لأنَّ لكل مرحلة ظروفها الخاصة بها.

من جهة ثانية، تؤثر شخصية أطراف العلاقة على علاقتهم بعد الافتراق، أو الانفصال، فهما في حالة الانتقال من الصداقة إلى الحبِّ، يبرزون صفاتهم الإيجابية، ويستفزون مشاعر التضحية والإيثار في سبيل الآخر، لكن في حالة الخلاف، يكون العكس، مما يجعل استمرار الصداقة بعد الحب أمراً يحتاج إلى الكثير من العقلانية والوعي.

كيف يتم الانتقال من الصداقة إلى الحب؟

الوقوع في الحبِّ (Falling in Love) ليس تعبيراً عادياً، إنَّه بالغ الدقة، فهو انتقال مفاجئ من شعور إلى آخر، وتبدل سريع في السلوك والرغبات، وهناك إشارات بالغة الوضوح على الانتقال من الصداقة إلى الحبِّ.

لكن قبل ذلك يجب تفسير هذه المفاجأة بإيجاز، فما قلناه سابقاً عن العلاقة التطورية والتوافق التدريجي قد لا يتفق عند البعض مع المفاجأة بتبدل المشاعر الدراماتيكي.

لكن الحقيقة أنَّ هذا جزء من غرابة الحبِّ، فبعد أشهر من التعارف، وربما سنة أو اثنتين وأكثر أحياناً، تتبدل فجأة كلُّ المشاعر، وتتدفق موجة من العمليات الكيميائية، والبيولوجية التي تقلب كيان العاشق الجديد.

فقد تعود فتاة من جلسة مع الأصدقاء، وتشعر فجأة بشوق لصديقها، قد يحرمها النوم، ثم تتصل به في الصباح الباكر دون أن تجد ما تقوله، تحركها رغبة استثنائية في سماع صوته، وقد يبادلها هذه الحالة، إلى أنْ يتجرأ أحدهما على أخذ المبادرة.

الثابت أن أغلب الحالات تسير بهذه الطريقة، انتقال سريع ومفاجئ من الصداقة إلى الحبِّ، لكنه مفاجئ في الظهور، وليس في التكوين، فهو يتطور في الباطن على مرِّ العلاقة ثم يظهر فجأة، وكأنَّه سقوط مفاجئ في حفرةٍ مجهولةٍ وغير متوقعة، وإليكم بعض الإشارات التي تدل على الانتقال من الصداقة إلى الحبِّ:

إذا كنت تعاني من هذه الأعراض، مرحباً بكما في الحبِّ:

  • الشوق الكبير تجاه الطرف الآخر، من بين المؤشرات الأكثر وضوحاً لتطور العلاقة، وأغلب الناس تستطيع التمييز بين الشوق لصديق، والشوق للحبيب.
  • مشاعر الغيرة مؤشر مهم أيضاً، فمن الممكن للفتاة أنْ ترى صديقها يغازل فتاة أخرى دون أن تتأثر، لكن الغيرة ستطفو على مشاعرها إذا كانت العلاقة قد بدأت تنحرف باتجاه الحبِّ، والعكس صحيح.
  • غالباً ما يتجاهل الأصدقاء كثيراً من التفاصيل اليومية التي لا تعنيهم، حيث يعتبرون أنَّها لا تؤثر على علاقتهم، مثل طريقة تناول الطعام، أو الاهتمام بالمظهر، وانتقاء الأحاديث ...إلخ، الأصدقاء أكثر حيوية وعفوية، لكن ما أن تنجرف مشاعر الصداقة في حفرة الحبِّ، حتى تبدأ محاولة إبراز الصفات التي تثير الإعجاب، ومراقبة التصرفات والكلمات، إضافة إلى كبت التصرفات العفوية.
  • الصداقة غالباً ما تفتقر إلى الدراما في الأحاديث، وتتجنب التصرفات البروتوكولية، على عكس الحبِّ؛ فإذا انتقلت فجأة من فجاجة الصداقة إلى الرومانسية، فأنت تنزلق مسرعاً باتجاه الحبِّ.
  • يقول الشعراء أنَّ الحب يظهر في العيون، وفي التصرفات، سيلاحظ كل من هم حولكم، أنَّكم مصابون بالحبِّ، وسيسألكم البعض، "متى ستتزوجون؟"، عندها سيكون الارتباك علامة جديدة على حقيقة تكهنات المحيطين.
  • ستفكرون بهذه التغيرات المفاجئة، هذا التفكير العميق سيكون الخطوة ما قبل الأخيرة قبل الاعتراف.
  • في لحظة ما، مفاجئةٍ أيضاً، سيكون الاعتراف بهذه المشاعر، مصدره الضغط الكبير الذي يشكله كتمان المشاعر بشكل عام، خاصة المشاعر القوية مثل الحبِّ.

ختاماً... عشرات آلاف المصادر، والكتب، والمقالات، التي تحاول أن تصل إلى حقيقة هذه المشاعر، أو أن تضع بينها حدوداً دقيقةً فاصلة، لكن على ما يبدو، سيبقى الحبُّ شعوراً مميزاً وغامضاً، وكما يقول سبينوزا الفيلسوف الهولندي، فإن محاولة تفسير الشيء الذي يميز ما هو جميل عما هو قبيح تؤدي إلى إفقاد الشيء الجميل معناه!، كذلك يقول الشاعر الراحل محمود درويش مخاطباً الحبَّ: "فأنتَ إنْ كنتَ تظهرُ أو تتبطنُ لا شكلَ لك".