العطور والروائح وقدرتها على استرجاع الذكريات

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الخميس، 10 مارس 2022
العطور والروائح وقدرتها على استرجاع الذكريات

قد يصادف أن تشتم رائحة فطيرة قادمة من أحد المطاعم القريبة، أو أن تشتم رائحة عطرٍ على أحد الأشخاص، فترجع بك الذاكرة إلى الوراء، أو قد يجول ببالك أن تقرأ جريدة صباحية فتنقلك رائحتها إلى ما وراء النسيان، وترجع بك الذاكرة إلى أيام الطفولة والمدرسة، بعدها تغرق في موجة من الذكريات الحية والقوية والحقيقية لتنقلك إلى أرشيف عقلك، فماذا عن هذا الموضوع؟

للروائح تأثير كبير وفعال على استرجاع التجارب السابقة

حسبما ذكر الموقع الطبي (Dr. Mercola)؛ بناءً على ما وصل إليه مؤسسة الدكتور ميركولا بأن للروائح تأثيراً كبير وفعال على استرجاع الذكريات والتجارب السابقة، وهي أشبه بالعملية التي تقوم بها الحواس الأخرى والتي تترجم من خلال المشاهد والأصوات واللمسات.

وحسب علم النفس اليوم، هذا الأمر يعود لسبب واحد يرتبط بطريقة الدماغ في معالجة الروائح والذكريات المتعلقة بها، حيث تُنظم هذه الروائح من خلال البصلة الشمية، تلك المنطقة التي تحلل الروائح في الدماغ، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحصين الذي يقع في البطين الجانبي للدماغ، والذي بدوره يتعامل مع الذاكرة والدماغ. من المثير للاهتمام أن المعلومات البصرية أو السمعية أو اللمسية لا تمر على هذه المناطق في الدماغ، كما أن الروائح هي التي تجعل هذه الأجزاء من الدماغ تحرك الذكريات والمشاعر.

تجتمع الذكريات المرتبطة بالرائحة فيما يسمى بذاكرة الشم، فحاسة الشم تلعب دوراً هاماً عند الثدييات في استرجاع الذكريات، وهذا الأمر يتطور بشكل طبيعي مع التطور في السن والتقدم في العمر، أما في حال إصابة بعض الأفراد بأمراض الدماغ مثل الزهايمر والخرف؛ يسبب لهم ذلك العجزَ في ذاكرتهم الشمية وقدرتها على تذكر العطور والروائح، بالتالي يفقد هؤلاء القدرة على التمييز بين الروائح مع التقدم بالمرض.

كما تذهب بعض الأبحاث الطبية إلى معرفة حالات الاكتئاب عند البعض من خلال اكتشاف ضعف حاسة الشم لديهم، فبذلك يمكن تمييز الكثير من الأمراض والاضطرابات العقلية من خلال قدرة الشم وقوة هذه الحاسة لدى الفرد.

حاسة الشم تحفز الذكريات وتتعامل مع الذاكرة

وحسب دراسة أجراها الباحث دونالد ويلسون في جامعة أوكلاهوما في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 بين فيها أن الرائحة هي جزيء فيزيائي يرتبط بمستقبلات بروتينية، فكل مستقبل يمتلك جزيء أي رائحة يستجيب لها، وهناك حوالي ألف نوع يمكن معرفته ويمكن للخلايا العصبية تمييزه، يكشف نظام حاسة الشم عن الروائح من خلال الكبيبات الموجودة في البصلة الشمية المسؤولة عن التفريق في الإدراك الحسي للعطور.

كما أن العمليات العصبية الموجودة في نظام حاسة الشم هي المسؤولة عن اللدونة العصبية وتغيير السلوك أو الشعور عند التعرض للروائح المخزنة في الذاكرة، لكن هذا لا يعني التأثر بجميع الروائح، فعند التعرض لرائحة ما لفترات طويلة تنخفض الاستجابة للرائحة لتكيف الخلايا العصبية عليها، فالنواقل العصبية هي التي تحفز حاسة الشم وتؤثر على أداء الخلايا واستجابتها للروائح، كذلك تشارك اللوزة الموجودة في الدماغ في تكوين الذكريات للتجارب العاطفية ولا سيما التي ترتبط بالخوف.

الذكريات التي ترتبط بالروائح تجعل عاطفتك أكثر قوة

هذه الروائح تشق طريقها عبر مناطق أخرى في الدماغ، بما في ذلك المناطق التي تسيطر على الذاكرة والعاطفة، فتقوم بمعالجة إضافية قبل الوصول للإدراك الواعي للرائحة، وإضافة إلى المناطق الدماغية التي تتعامل مع الروائح، يحتوي الجسم على الكثير من مستقبلات الروائح التي يقدر عددها بما لا يقل عن 1000 مستقبل بما فيها الحواس، 4 مستقبلات عبر النظر، 4 أو أقل عبر اللمس، وهذا يعني أنه بالإمكان التمييز بين أنواع مختلفة من الروائح.

وفي اختبار على أفراد من كبار السن، قُدم للمشتركين ثلاث عينات (كلمة - صورة - رائحة)، وطُلب منهم التحدث عن الذكريات التي تزاحمت في ذاكرتهم من خلال تعرضهم لهذه الأمور، واتضح بعد التجربة أن الإنسان قادر على تذكر أمور ومشاعر من سن الطفولة اعتماداً على الروائح، في حين أنه قادر على تذكر الأشياء التي حدثت معه في سن البلوغ بناءً على المؤثرات اللفظية والبصرية، فالروائح والعطور قادرة على استرجاع الذكريات والمشاعر المتعلقة بالروائح أكثر من المنبهات والمؤثرات الأخرى، وفي السياق ذاته يمكن معرفة أن حاسة الشم هي ذاتها في مختلف الأعمار، لكن مع ضعف قوة الجسم قد تتغير.

قد تكون العلاقة بين الرائحة والذاكرة ليست مباشرة

في دراسة أجرتها لورا شرود (Laura R. Shrode) عام 2012 في جامعة سانت جون بمينسوتا بينت أن هناك اتصالاً عصبياً بين حاسة الشم والذكريات التي تتعلق بها، لكن لهذا الأمر حالة إيجابية أو سلبية، فهذه القضية ليست بذات المستوى بين جميع الأفراد وقد تختلف من شخص لآخر، كما يمكن أن يكون هناك بعض الأخطاء في إدراك الروائح أو لبس، ما يجعل الرائحة لا تؤثر على الذاكرة وتسترجع الذكريات، سبب ذلك أن العلاقة بين الرائحة والعاطفة أو الذاكرة ليست مباشرة.

الخلايا العصبية الشمية في الجزء العلوي من الأنف تمتص الروائح وتقوم بتمريرها إلى الدماغ عبر العصب الشمي، لتصل إلى البصلة الشمية فتقوم بمعالجة الإشارات، ثم تمر على المعلومات التي ترتبط بالرائحة والتي تعرف بالجهاز الحوفي (الجهاز الذي يلعب دوراً كبيراً في السيطرة على المزاج والعاطفة والذاكرة)، هنا حاسة الشم ترتبط بشكل وثيق مع الذاكرة لاستحضار الذكريات مع الروائح، مثل رائحة بستان الزهور التي قد تجعلك تعود بذكرياتك إلى الطفولة.

الروائح والخوف المرتبط بها

ليست الذكريات الجميلة فقط يمكن استرجاعها عبر الروائح التي نتعرض لها، فالعطور قادرة على حث الإثارة الفسيولوجية، وتذكر المواقف الصعبة أو بعض الصدمات التي مر بها الشخص في إحدى فترات حياته، فالروائح قد تعود بذاكرة الإنسان إلى ذكريات مزعجة خصوصاً الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، والذين يتأثرون لفترة طويلة بالأحداث القاسية التي عاشوها.

بما أن الرائحة مرتبطة بالذاكرة بشكل حساس، تم في هذا الصدد تركيب مجموعة من العطور التي تسعى إلى نقل الأشخاص إلى مجموعة واسعة من العواطف والمشاعر، أو للوصول إلى القوة والاسترخاء والحيوية، كما أن الرائحة تتعلق بقضية التجاذب بين الشخصين، فمن خلال رائحة الجسم التي تنتجها الجينات يمكن أن تساعدنا على اختيار شركاؤنا.

كما أن للروائح تأثير كبير على رد فعلنا العاطفي وتكوينه النفسي، وواحدة من الطرق التي نتعامل بها مع العالم، فعندما نشتم رائحة على شخص نبغضه أو لا نستلطفه، ومن ثم نشتم الرائحة لمرة أخرى في مكان ما، قد ننزعج منها لتذكرنا بالشخص نفسه.

علاقة الروائح بالجنين أثناء فترة الحمل

البصلة الشمية هي واحدة من الهياكل العصبية التي تواجه تغير كبير عند الولادة حسب التأثيرات التي يتعرض لها الطفل عند الولادة، فالتغيرات التي تصيب نظام حاسة الشم بعد الولادة مهمة جداً، إلا أنها تتأثر بحالة الحمل عند الأم، والمرونة في حاسة الشم، وتكون الخلايا العصبية الشمية لديها وانتقالها إلى الجنين.

ومن المثير للاهتمام أن مخاوف الأم من خلال الرائحة تنتقل إلى الجنين أثناء فترة الحمل، فمن خلال تجربة أجراها مركز EDP للعلوم عام 2005 على إحدى إناث الفئران تم تكييفها لحالة من الخوف مع رائحة النعناع في فترة الحمل، وفي وقت لاحق تعرضت الجراء لرائحة النعناع أيضاً، فكانت النتيجة حالة من الخوف مشابهة للأم، وكان تأثير الرائحة كبيراً على مشاعر الخوف لدى الفئران لدرجة أنهم حاولوا إغلاق الأنابيب التي توصل الرائحة، وهذا راجع إلى الحصين في الدماغ الذي يعالج العواطف بما في ذلك استجابات الخوف.

قوة العطور فعّالة في إزالة القلق

يحدث هذا الأمر -استرجاع الذكريات- عادةً عن طريق المصادفة، عندما تشتم رائحة ما عن طريق الأنف، فقوة تلك الروائح تعمل على تحريك الاستجابات الجسدية والعاطفية الحقيقية، ويقوم العقل باسترجاع الذكريات التي حصلت تزامناً مع تلك الرائحة.

ومن الناحية الأخرى، الروائح قادرة على إزالة أعراض القلق بين الناس، خصوصاً في الحالات التي تتعلق بالروائح المزعجة مثل رائحة المشافي، فهناك الكثير من العطور التي تعمل على تهدئة المشاعر وإزالة القلق، ومنها رائحة البرتقال والخزامى، فالنساء اللواتي يذهبن إلى طبيب الأسنان ويستنشقن رائحة الخزامى، يساعدهن ذلك على إزالة القلق ويحصلن على مزاج أكثر إيجابية ومستوى أعلى من الهدوء، كما أن هناك استعمالات متنوعة للعطور؛ فرائحة التفاح تفيد في علاج الشقيقة وتخفيف آلام الصداع النصفي، النعناع الأخضر يعمل على تقوية الذاكرة وزيادة اليقظة، رائحة النعناع والخزامى والزنجبيل تساعد في تخفيف القيء والغثيان بعد الجراحة.

حاسة الشم لديك مؤثر قوي على صحتك

إن كنت تمتلك حاسة شم قوية فأنت من المحظوظين، لأن حاسة الشم ترتبط بالعديد من العمليات الفسيولوجية المختلفة، وحسب تجربة قام بها الباحثون بجامعة شيكاغو على 3000 شخص من البالغين وكبار السن؛ وجدوا أن الأشخاص الذين لا يملكون قدرة كبيرة على الشم من المحتمل أن يموتوا في غضون خمس سنوات مقارنة مع غيرهم.

وكانت نتيجة الاختبار أن 39% من المشاركين فشلوا في إدراك الرائحة الأولى المؤلفة من خمس روائح مشتركة، هذا يعني أنهم معرضون للموت في الخمس سنوات المقبلة، 19% لديهم قدرة متوسطة معتدلة، و10% لديهم قدرة صحية عالية، ووجد الباحثون أن فقدان حاسة الشم مؤشر قوي على الاقتراب من الموت، بل أكثر الأسباب الرئيسية للوفاة بغض النظر عن عوامل الوفاة الأخرى مثل الصحة العقلية وأمراض القلب وغيرها.

في حين وجد باحثون آخرون أن فقدان حاسة الشم لوظيفتها لا يكون سبباً للموت كما وذكرت صحيفة الجارديان "أن العصب الشمي الذي يحتوي على مستقبلات الشم هو الجزء الوحيد من النظام العصبي البشري الذي يُعاد تشكيله باستمرار من قبل الخلايا الجذعية"، لكن إنتاج خلايا شمية جديدة ينخفض مع التقدم في السن، وهذا يرافقه انخفاض تدريجي في القدرة على اكتشاف الروائح، لكن فقدان حاسة الشم يدل على أن الجسم في حالة عطب، والعصب الشمي غير قادر على تجديد نفسه.

كيف تقوي حاسة الشم لديك

وحسب ما ذكر الدكتور ميركولا هناك خطوات يمكن اتباعها لتحسين حاسة الشم، لتتخلص من نقص الزنك الذي يلزم لإنتاج أنزيم الكربونيك الذي يقوي عملية الشم، ونقص الزنك يحصل عند الأطفال والرضع والحوامل وكبار السن الذين يعانون من سوء امتصاص الجهاز الهضمي.

فمن الممكن تعويض النقص من خلال تناول الأطعمة التي تعتبر إحدى أكبر مصادر الزنك مثل اللحوم، الأسماك، الحليب، لبن الزبادي، الجبن والفول، كما أن ممارسة الرياضة تساعد على علاج المشكلة وتزيد من قوة حاسة الشم.

ختاماً.. كتب الصحفي نيك كولينس (Nick Collins) في صحيفة التلغراف مقال تحدث فيه عن هذا الأمر، فوجد من خلال أبحاثه أن "الروائح يمكن أن تنقلنا إلى ذكريات عاطفية من الماضي بشكل أكثر فعالية من الأصوات"، داعماً بذلك نظرية بروست، فالروائح ترتبط بالذكريات كونها تخزن في الجزء المخصص لها في الدماغ أي في البصلة الشمية، إذاً الروائح قادرة على استرجاع الذكريات والمشاعر أيضاً.

ليالينا الآن على واتس آب! تابعونا لآخر الأخبار