وفاة أحمد عوابدية: صوت التراث الجزائري الأصيل

  • تاريخ النشر: منذ 5 ساعات زمن القراءة: 4 دقائق قراءة
وفاة أحمد عوابدية: صوت التراث الجزائري الأصيل

رحل أحمد عوابدية تاركًا فراغًا كبيرًا في قلوب محبيه، وفي المشهد الثقافي القسنطيني والجزائري عمومًا، لكنه ترك أيضًا إرثًا يصعب تعويضه.

من هو أحمد عوابدية؟

يعد أحمد عوابدية واحدًا من أبرز الأصوات التي كرست حياتها للموسيقى التراثية في الجزائر، خصوصًا فن المالوف القسنطيني، ذلك الفن العريق الذي ارتبط بمدينة قسنطينة منذ مئات السنين. ورغم أن اسمه لم يكن دائمًا حاضرًا في المشهد الإعلامي مثل بعض نجوم الموسيقى التجارية، فإن صيته ظل قويًا داخل الأوساط المهتمة بالموسيقى الأندلسية والمالوف، حيث شكّل طوال عقود رمزًا من رموز الحفاظ على هذا الفن الأصيل، وصوتًا حافظ على نقاء أداءه وصدق مشاعره. 

البدايات… طفل قسنطيني يتعلّم النغم قبل الحروف

ولد أحمد عوابدية في مدينة قسنطينة، المدينة التي تُلقَّب بعاصمة الشرق الجزائري وعاصمة المالوف. نشأ بين الأزقة القديمة، حيث تختلط رائحة التاريخ بنغمات الموسيقى التي تنبع من البيوت العتيقة والزوايا والجمعيات الموسيقية. منذ طفولته، بدا واضحًا انجذابه العميق للألحان القديمة، فقد كان يستمع بشغف إلى تسجيلات كبار شيوخ المالوف، ويحاول تقليدهم في البيت وفي جلسات الأصدقاء.

بدأ خطواته الأولى من خلال الجمعيات الموسيقية المحلية، وهي مدارس غير رسمية لكنها حقيقية لتخريج الأصوات القادرة على حمل التراث. ومع الوقت صار واحدًا من التلاميذ المميزين الذين يمتلكون خامة صوتية قوية وحضورًا يمزج بين الوقار والهدوء.

صوت استثنائي… قوة في الأداء وصدق في الإحساس

تميّز صوت أحمد عوابدية بالقوة والدقة، وبإمكانية واضحة في التحكم في الطبقات الموسيقية، خصوصًا عند أداء النوبات الأندلسية والمالوف القسنطيني. كان قادرًا على التنقل بسلاسة بين المقامات المختلفة، وهو ما جعله قريبًا من جمهور المالوف التقليدي الذي لا يرضى بسهولة عن الأداء غير المتقن.

كان أداءه يعتمد على وضوح مخارج الحروف، وعلى احترام النصوص والمقامات، إذ كان يرفض أي تهاون في الألفاظ أو ميل إلى التسهيل الذي قد يخلّ بروح المالوف. بهذا الالتزام الشديد بالتقاليد أصبح مرجعية لدى الكثير من الشباب الذين حاولوا تعلّم هذا الفن. وبحسب شهادات كثيرين، فإن عوابدية كان قادرًا على جعل القصيدة تنبض بالحياة، إذ كان يحوّل كل مقطع إلى لوحة موسيقية تروي قصة.

مسيرة فنية ممتدة ودفاع دائم عن أصالة المالوف

طوال مسيرته، ظل أحمد عوابدية داعمًا قويًا لفكرة حماية التراث من التشويه أو التبسيط المبالغ فيه. كان يرى أن المالوف ليس مجرد أغنية تؤدى، بل هو تاريخ وذاكرة وعمق ثقافي لا يقبل العبث. لذلك كان ينتقد بشجاعة محاولات إدخال التعديلات التجارية أو تحويل الفن إلى منتج سريع يغيب عنه الجوهر.

شارك عوابدية في العديد من المهرجانات المحلية بولاية قسنطينة والولايات المجاورة، كما سجّل حضورًا مهمًا في الاحتفالات الرسمية وجلسات الطرب الراقية. ومع أن أعماله لم تكن دائمًا بصيغة ألبومات تجارية، فإن تسجيلاته الحية موجودة بقوة على منصات الفيديو ومواقع التواصل، وتشكل مرجعًا لمحبي التراث.

أعماله… تراث يتجاوز حدود التسجيل

اعتمد أحمد عوابدية في مسيرته على تقديم أعمال تراثية أصيلة، منها مقطوعات مالوفية ليست مُلك فنان واحد بل جزء من ذاكرة جماعية. كان يؤدي القصائد الأندلسية والأزجال القديمة بروح حديثة دون أن يفقد أصالتها، وهذا ما جعله محبوبًا لدى الجمهور التقليدي والشباب في آن واحد.

وما يميز أعماله أن الكثير منها خرج من إطار التسجيل التجاري إلى إطار الحفظ التاريخي، إذ نجد تسجيلات له في جلسات خاصة، وحفلات صغيرة، ومناسبات ثقافية. هذه التسجيلات باتت اليوم جزءًا من الذاكرة الموسيقية للقسنطينيين.

مدرسة موسيقية في حدّ ذاته

لم يكن أحمد عوابدية مجرد مطرب، بل كان معلمًا حقيقيًا لكل من أراد فهم المالوف. أشرف على تدريب العديد من الشباب، وشارك في ورش محلية، وحرص على تعليم الأجيال مبادئ النوبات والمقامات وكيفية الأداء الصحيح. وقد ترك هذا الارتباط بالتعليم أثرًا واضحًا، إذ إن كثيرًا ممن تتلمذوا على يده يواصلون اليوم حمل الرسالة الموسيقية نفسها.

رحيله… خسارة كبيرة لفن المالوف

رحل أحمد عوابدية بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الستين، فكانت وفاته صدمة للمدينة ولعشاق الطرب الأندلسي. امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بصور وفيديوهات له، وبعبارات نعي مؤثرة تُبرز حجم الحب الذي كان يحظى به، وحجم الفراغ الذي تركه في قلوب جمهوره.

وخلال أيام قليلة تحوّلت سيرته إلى حديث الصحافة الجزائرية والعربية، التي ركّزت على إرثه وعلى دوره في الحفاظ على هوية المالوف. كثيرون وصفوه بصوت قسنطينة الأصيل، ورجل المواقف الفنية الذي لم يسمح لروح الفن أن تُباع في سوق التجاري.

إرثه… ذاكرة لا تزول وصوت لن ينسى

بعد رحيل أحمد عوابدية، عاد الحديث بقوة عن قيمة حفظ التراث وعن أهمية وجود أمثاله ممن يكرسون حياتهم لفنٍ غير ربحي لكنه جوهري في الهوية. ترك وراءه مدرسة كاملة من الأساليب، وتسجيلات ستظل تُدرَّس وتُسمع، وشبابًا تشربوا منه حب الفن واحترامه.

ليالينا الآن على واتس آب! تابعونا لآخر الأخبار