الاضطرابات المزاجية للأم بعد الولادة (الوضع)

  • موقع الطبيبواسطة: موقع الطبي تاريخ النشر: الإثنين، 08 يونيو 2015 آخر تحديث: الإثنين، 17 أكتوبر 2022
الاضطرابات المزاجية للأم بعد الولادة (الوضع)
تحتل الاضطرابات المزاجية Mood disorders التي قد تصيب الأم بعد الوضع Postpartum بفترة قصيرة، الدرجة الأولى في سلم المضاعفات العضوية والنفسية مجتمعة، التي قد تصيب الأم بعد عملية الوضع بشكل عام (سواء كانت الولادة طبيعية أو جراحية).  وتكون محيرة ومربكة للأهل من جهة، وللعاملين في طب الولادة وطب العائلة، من جهة أخرى، ما يضطرهم الى استشارة العاملين في مجال الصحة النفسية.
 
وقد أشارت الدراسات العديدة الى أن نحو 87 في المئة من الأمهات يعانين من نوع من أنواع الاضطرابات المزاجية الثلاثة، التي قد تحدث بعد وضعهن لأطفالهن، وهذه الاضطرابات هي:
 
حزن ما بعد الوضع Postpartum Blues.
اكتئاب ما بعد الوضع Postpartum Depression.
ذهان ما بعد الوضع Postpartum Psychosis.
 
ويعتقد بعض الأطباء أن الاضطرابات المزاجية الحاصلة بعد عملية الوضع، تختلف اختلافاً كلياً عن الاضطرابات المزاجية التي تحدث في فترات أخرى من حياة المرأة، عدا فترة ما بعد الوضع.  غير ان العديد من الأطباء (بمن فيهم كاتب هذا المقال الدكتور جابي كيفوركيان) يعتقدون أن الاضطرابات المزاجية بعد الوضع تنطبق عليها جميع المعايير التشخيصية لاضطرابات المزاج الذهانية وغير الذهانية، التي تحدث في فترات مختلفة من حياة المرأة. غير أن مضمون الكثير من الأفكار والسلوكيات والضلالات والهلوسات التي قد تحدث بعد الوضع، تدور حول عملية الولادة والمولود تحديداً.  لذلك لا يمكن فصل الاضطرابات النفسية التي تحصل بعد الوضع، عن الاضطرابات النفسية التي تحدث في فترات وأوقات أخرى من حياة المرأة.
 
أسباب اضطرابات المزاج بعد الوضع
 
هنالك عدة أسباب وعوامل تساهم في إصابة الأم بعد الوضع باضطرابات مزاجية، هي: 
 
التغيرات الهرمونية: من المعروف طبياً أنه خلال الأسابيع القليلة الأخيرة من فترة الحمل يرتفع مستوى هرموني الأستروجين Estrogen  والبروجسترون Progesterone في الدم ارتفاعاً كبيراً، بينما ينخفض مستوى هذه الهرمونات (بما فيها هرمون الكورتيزول Cortisol) انخفاضاً مفاجئاً خلال اليومين الأولين من فترة الأربعة أو الستة أسابيع، التي تلي الوضع، والمسماة علمياً فترة "النفاس" Puerperium.
 
ويعتقد الأطباء أيضاً أن زيادة تركيز هرمون البرولاكتين Prolactin في الدم يؤدي أيضاً الى تغيرات مزاجية، (ومعروف أن هرمون "البرولاكتين" يحث غدد الثدي على إفراز الحليب والاستمرار في ذلك طيلة فترة الرضاعة).
غير أن هذه التغيرات الهرمونية، تحدث عند جميع الأمهات في فترة النفاس، فلماذا يصاب البعض منهن باضطرابات مزاجية في حين أن البعض الآخر لا يصاب بها؟!
 
من هنا، يمكن أن نستنتج أن المرأة الحساسة فقط من هذه التغيرات الهرمونية هي التي تصاب باضطرابات نفسية.
 
العوامل النفسية: النساء اللواتي يعانين من عدم الانسجام مع أزواجهن، أو عدم الرضى على العلاقة الزوجية، أو عدم وجود دعم معنوي وعاطفي من الأهل والزوج والأقارب أثناء فترة الحمل وخلال الوضع، أو النساء اللواتي أصبن قبل الولادة (أو بعدها بفترة قصيرة) بمصائب عائلية واجتماعية سلبية، مثل: موت شخص عزيز او الطلاق.  كل هذه العوامل تجعلهن معرضات وقابلات للإصابة باضطرابات مزاجية بعد الوضع، مقارنة مع غيرهن من الأمهات.
 
العوامل البيولوجية: النساء اللواتي أصبن في الماضي (قبل الحمل أو خلاله) باضطرابات مزاجية، أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات المزاجية بعد الوضع، مقارنة مع غيرهن من النساء.  وكذلك الأمر بالنسبة للنساء اللواتي لهن تاريخ مرضي (ماضي) يشير الى إصابتهن باضطرابات نفسية بعد الوضع.
 
حزن ما بعد الوضع
 
هذا النوع من الاضطرابات المزاجية أكثر شيوعاً من الاكتئاب والذهان التي يمكن أن تصاب بها الأم بعد الوضع.  وتتراوح نسبته الانتشارية بين 71 و 85 في المئة من حالات الوضع. وتبدأ أعراض المرض بالظهور في اليوم الثاني بعد الوضع، لتصل ذروتها في اليوم الرابع أو الخامس.
 
وتتمثل هذه الأعراض بما يلي: بكاء مستمر، قلق على الوليد بشكل عام وعلى الرضاعة بشكل خاص، ارتباك، حساسية تجاه تعليق وملاحظات الناس من حولها. غير أن هذه الأعراض ما تلبث أن تزول تلقائياً خلال الأسبوعين التي تلي الوضع. وقد تزول في مدة أقصر من ذلك في حال منح الأهل والزوج الدعم المعنوي والحب والحنان للأم، وتوفير المجال لها للنوم قدر المستطاع، إضافة الى قيام العاملين في مجال الصحة بطمأنة الأم بأن هذه الأعراض ليست سوى أعراض عابرة ومؤقتة وستزول لا محالة. ولا توجد حاجة لتناول الأدوية والعقاقير. 
 
وإضافة الى أسباب الإضطرابات المزاجية التي تلي الوضع والمذكورة سابقاً، هنالك أسباب خاصة قد تلعب دوراً مهماً في حدوث "حزن ما بعد الوضع"، وهي: التوتر والكرب وعدم الخبرة برعاية الوليد لكون الأم بكرية وصغيرة السن والتغير المفاجئ في نمط الحياة وعدم توفر الحب والحنان الزوجي.
ومن الملاحظ أن هذا الوضع النفسي لا يمنع الأم من القيام بواجباتها تجاه الوليد، مثل الرضاعة والعناية به من جهة، وتجاه البيت من جهة أخرى.
 
وأما في حال استمرار الأعراض لمدة أكثر من أسبوعين، وكونها أكثر شدة ووقعة على الأم، فيجب تقييم الوضع النفسي للمريضة جيداً وبأكثر انتباه ودقة. فقد تكون تعاني الأم من "اكتئاب ما بعد الوضع"، علماً أنه لا توجد أية دلائل حاسمة ومقنعة تشير الى إمكانية تحول "الحزن ما بعد الوضع" الى "اكتئاب ما بعد الوضع" لاحقاً (علماً أن القليل من الأطباء يعتقدون أن 19 في المئة من الأمهات يتحول حزنهن الى اكتئاب).  ويجب أن لا ننسى أن الدعم المعنوي والحب والحنان المقدمة للأم من قبل الأهل وشريك الحياة، كلها تلعب دوراً مهماً في تحسن المرأة.
 
اكتئاب ما بعد الوضع
 
من الناحية الانتشارية، يأتي هذا النوع من الاكتئاب بعد "حزن ما بعد الوضع"، إذ تتراوح نسبته الانتشارية بين 9 و 15 في المئة من حالات الوضع.  وعادة تظهر أعراض المرض خلال الثلاثة أو الأربعة أشهر الأولى التي تلي الوضع.
وكما ذكرت سابقاً، فإن أعراض الاكتئاب بعد الوضع تشبه الى حد كبير أعراض الاكتئاب الذي قد يصيب المرأة في فترات أخرى من حياتها، غير أنها قد تختلف عن الأعراض الكلاسيكية للاكتئاب، في مضمونها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نرى أثناء الاكتئاب العادي (غير المرتبط مع عملية الوضع) أن المريض يشكو من غياب اللذة والاستمتاع بملذات الحياة التي عادة تجلب له السعادة والاستمتاع، وهذه الظاهرة تسمى علمياً Anhedonia، ومن الأمثلة على ذلك عدم الاستمتاع بالمسلسل التلفزيوني الذي كان عادة يستمتع به.. غير أننا نرى هنا أن الأم لا تفرح ولا تبتهج لمشاهدة وليدها، ولا تداعبه ولا تستمتع بإرضاعه، وحتى قد ترفض مشاهدته.  وتكون سريعة البكاء وتفقد المقدرة على النوم، وقد تعاني من قلق ووسواس فيما يخص الحالة الصحية للوليد. وتكون منعزلة وطاقتها الوظيفية منخفضة جداً، وتفقد الشهية للأكل، والمقدرة على التركيز وبخاصة في رعايتها لطفلها، وقد لا تستطيع العناية بوليدها مطلقاً ما يؤدي الى شعورها بالذنب وتقريع الذات، ويكون مزاجها منخفضاً مع كثرة في البكاء، والشعور بالإرهاق. وتنتابها أفكار انتحارية، أو أفكار لإيذاء الوليد، غير أنها لا تقدم على الانتحار أو على إيذاء وليدها.
 
وإضافة الى الأسباب والعوامل العامة المذكورة في مقدمة الموضوع، فإن هنالك أسباب خاصة قد تلعب دورها في حدوث "اكتئاب بعد الوضع" وهي: المرأة البكرية فوق سن 30 عاماً تكون أكثر عرضة للإصابة بهذا النوع من الاكتئاب، مقارنة مع غيرها من النساء الحوامل. ناهيك عن أن المشاكل العائلية المتنوعة، مثل: عدم الانسجام العائلي والتوتر والمسؤولية الملقاة على عاتق الأم تجاه وليدها، ووجود ماض كئيب (أي أنها سبق وأصيبت بالاكتئاب قبل الزواج أو قبل الحمل أو أثناء الحمل) كلها قد تؤدي الى الإصابة بالاكتئاب.  وأخيراً قد يؤدي الحمل غير المرغوب به (أو غير المخطط له) وعدم وجود الدعم والحب والحنان من الأهل، وتحديداً من شريك الحياة، إلى إصابة الأم بالاكتئاب.
 
وقبل البدء بالعلاج يجب استثناء وجود أسباب أو حالات طبية (عضوية) تقف وراء معاناة المرأة من الاكتئاب، وأذكر من هذه الحالات، على سبيل المثال لا الحصر، أمراض الغدة الدرقية و فقر الدم وأمراض أخرى لا مجال لذكرها هنا.
وكلما بدأنا بالعلاج مبكراً كلما كانت النتيجة جيدة. وعدم نجاح العلاج قد يؤدي الى تردي الرابطة العاطفية بين الأم وطفلها، أو بينها وبين شريك حياتها.  ناهيك عن أن التأخر في بدء العلاج قد يؤدي الى تدهور الوضع الصحي للأم، من جهة، ولوليدها من جهة أخرى.  كذلك قد يتعرض تطور الطفل الاجتماعي والأكاديمي مستقبلاً للخطر.
 
وينقسم علاج الاكتئاب الى ثلاثة أقسام، هي: العلاج النفسي والعلاج بالصدمة الكهربائية والعلاج بالأدوية:
 
العلاج النفسي: يستخدم هذا النوع من العلاج في حال معاناة المريضة من أعراض اكتئاب طفيفة أو متوسطة. وفي هذه الحالة يمكن اللجوء الى استخدام العلاج النفسي الفردي أو الجماعي، وبخاصة العلاج الإدراكي – السلوكي Cognitive-Behavioral. كذلك يمكن اللجوء إلى أسلوب جماعات الدعم التثقيفي النفسي Psychoeducational. وهذه الأنواع من الأساليب العلاجية مناسبة للأمهات اللواتي يرضعن أطفالهن ويرغبن في تجنب تناول الأدوية والعقاقير المضادة للاكتئاب.
 
العلاج بالأدوية: تستخدم الأدوية المضادة للاكتئاب في حالات الاكتئاب المعتدلة أو الشديدة، أو عندما لا تستجيب المريضة للعلاج النفسي. كذلك يمكن الجمع بين العلاج النفسي والعلاج بالأدوية، أي يمكن استخدامهما معاً.
وتبقى الأدوية المضادة للاكتئاب الاختيار الأول في علاج "الاكتئاب ما بعد الوضع"، يلي ذلك استخدام هرمون الاستروجين بالتزامن مع مضادات الاكتئاب أو لوحده.
 
وعادة تبدأ الأم بالتحسن (تتلاشى أعراض الاكتئاب) بعد تناول الأدوية المضادة للاكتئاب خلال فترة تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع.  لذلك يمكن استخدام الأدوية المضادة للقلق مثل "كلونازبام" Clonazepam و "لورازبام"  Lorazepam الى حين بدء مفعول الأدوية المضادة للاكتئاب، وخصوصاً في حال معاناة الأم من الأرق والقلق.
 
غير أن التحسن الكامل قد يحدث بعد شهرين من ابتداء تناول الدواء، ويجب أن لا ننسى دائماً أن الدعم والحب والحنان المقدم من أهل المريضة، وخصوصاً الزوج، يلعب دوراً كبيراً في إسراع التحسن. وفي حال كون هذه هي المرة الأولى التي تعاني منها الأم من "الاكتئاب ما بعد الوضع"، فإنه يجب الاستمرار بالعلاج لمدة تتراوح بين سبعة أشهر و 13 شهراً.
 
وفي حال كانت الاستجابة للعلاج جزئية، فإنه من الممكن زيادة جرعة الدواء.
 
وأما في حال كان الاكتئاب من النوع المتكرر والشديد، فإنه يجب الاستمرار بتناول الدواء لمدة أطول من ذلك بكثير، وهذه تحدد من قبل الطبيب المعالج.
وتعطى الأولوية للأدوية المضادة للاكتئاب التالية: "فلوكسيتين" Fluoxetine و"سيرترالين" Sertraline و "باروكسيتين" Paroxetine و Citalopram و Escitalopram.
ويلي الأدوية المذكورة سابقاً، أهمية الأدوية التالية: Venlafaxine و Duloxetine وأخيراً يمكن إعطاء دواء Nortriptyline.
 
الصدمة الكهربائية: في حال عدم استجابة المريضة للعلاج النفسي أو للعلاج بالأدوية، وفي حال كون الاكتئاب شديد الوقعة ويتصاحب مع أفكار انتحارية، يمكن استخدام أسلوب العلاج بالصدمة الكهربائية Electroconvulsive Treatment ويرمز له بالأحرف الثلاث ECT، وهو عبارة عن إحداث نوبة تشنجات عضلية (نوبة صرع) عند المريضة عن طريق تمرير تيار كهربائي منخفض الجهد، عبر دماغها.  ويعتقد أن الصدمة الكهربائية هذه تحدث تغيرات كيميائية في الدماغ ما يؤدي الى تحسن حالتها النفسية. وتعطى المريضة ثلاث جلسات أسبوعياً لمدة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع.
 
وكما ذكرت سابقاً، فإن معظم النساء تتحسن حالتهن خلال 6-12 شهراً.  وهنا أشدد، على أن الإرشادات والنصائح المعطاة للأهل وللمريضة من قبل المرشدين الاجتماعيين والاختصاصيين النفسانيين والعاملين في مجال الصحة النفسية المجتمعية، إضافة الى الحب والحنان المقدم من قبل الأهل والزوج، كل ذلك يلعب دوراً مهماً في سرعة التحسن وثباته.
 
وأود أن أشير أيضاً إلى أن نسبة تكرار الاكتئاب في الحمل والولادة التالية قد تصل الى 21 في المئة. لذلك يجب دعم المرأة أثناء فترة الحمل، وما بعد الوضع، لوقايتها من الإصابة بأية اضطرابات مزاجية بعد الولادة.
ذهان ما بعد الوضع
يعرف "ذهان ما بعد الوضع" (والذي يسمى أيضاً "ذهان النفاس" Puerperal Psychosis) بأنه معاناة الأم من أعراض ذهانية (الانفصال عن الواقع) خلال الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع الأولى التي تلي الوضع، وهو أشد انواع اضطرابات ما بعد الوضع. وقد يكون له في بعض الأحيان بداية مفاجئة، بحيث تبدأ أعراضه بالظهور خلال اليومين أو الثلاثة أيام الأولى التي تلي الوضع.
 
وذهان النفاس نادر الحدوث، وتتراوح نسبته الانتشارية بين حالة أو حالتين من بين كل ألف حالة وضع.
 
وتتمثل الصورة السريرية لذهان النفاس بالأعراض الكلاسيكية لاضطراب ثنائي القطب Bipolar Disorder المعروف أيضاً باسم الهوس الاكتئابي Manic Depression، حيث تتراوح الأعراض بين الصورة السريرية للهوس Mania، وهي: الهياج والانفعال وسرعة الكلام والحركة والأرق والابتهاج (فرح مفرط) Elation، وضلالات وهلوسات (سيأتي شرح كل ذلك لاحقاً). وبعد أيام أو أسابيع قليلة (خصوصاً في حال عدم علاج المريضة) تتحول هذه الأعراض فجأة الى صورة عكسية تماماً. وتتمثل بالصورة السريرية للاكتئاب الذهاني وهي: حزن شديد جداً وارهاق وبكاء وانعزال وإهمال الذات والوليد وعدم الرغبة برؤية أحد وعدم التركيز وعدم المقدرة على النوم وفقدان الشهية للأكل وعدم الاستمتاع بالوليد والشعور بالذنب لعدم المقدرة على القيام بواجباتها تجاه وليدها، واحساسها بالعدم (كل شيء من حولها عادم ولا وجود له)، إضافة الى الضلالات والهلوسة (سيأتي شرحها لاحقاً).
 
وهنا أود أن أشدد على أن الأعراض التي تميز ذهان النفاس عن "حزن ما بعد الوضع" و "اكتئاب ما بعد الوضع"، هي أعراض الانفصال عن الواقع، المتمثلة بالأعراض الكلاسيكية للذهان، وهي: التوهم (الضلالات) Delusions والهلوسات Hallucinations.
وتعرف الضلالات بأنها معتقدات خاطئة يتمسك بها المريض، رغم كل الدلائل والبراهين المعارضة لها (أي لا يمكن تصحيحها بالحجج والبراهين)، ولا يشارك المريض معتقداته الخاطئة هذه أشخاصاً آخرين من نفس الخلفية الاجتماعية والثقافية.
وأما الهلوسة، فتعرف بأنها تسجيل المنبهات الخارجية دون وجودها الفعلي (بمعنى آخر، هي إدراك حسي غير قائم على أساس أو نتيجة تأثير منبهات خارجية).  والمنبهات الخارجية هي الحواس الخمسة.  مثال على ذلك سماع المريض لصوت انسان يتكلم معه أو مع غيره، دون وجود فعلي لشخص يتكلم، أو رؤية المريض لحيوانات لا وجود لها.  وبناء على ذلك تقسم الهلوسات الى الأنواع الخمسة التالية: سمعية، بصرية، شمية، ذوقية، ولمسية.
 
وكما ذكرت سابقاً فإن أعراض ذهان النفاس تبدأ عادة خلال الأيام القليلة الأولى التي تلي الوضع (مع أنه يمكن أن تبدأ الأعراض خلال شهرين بعد الوضع)، وذلك بشعور الأم بالنشاط الجسدي والعقلي الزائد عن الطبيعي، وقد تقوم بالاتصال بالأصدقاء والمعارف في ساعات متأخرة من الليل متحدثة عن جمال وليدها، ومعبرة عن فرحتها به، ويكون مزاجها مرتفعاً بشكل غير طبيعي وتكون سريعة الكلام، ولا تترابط افكارها مع بعضها بعض، وتتكلم بصوت عال، وقليلاً ما تحتاج للنوم، ومن الصعب منعها من الاستمرار بسلوكياتها المتهورة.
 
وقد تعاني من الارتباك والوسواس تجاه سلامة طفلها الصحية.  كذلك تبدأ بالتعبير والتصريح عن أشياء غير عقلانية وغير منطقية، فنراها تعاني من ضلالات العظمة (أنها تملك قوة خارقة) ومن ضلالات الاضطهاد (إحساسها بأن الناس من حولها يحاولون ايذاءها أو ايذاء وليدها) وضلالات الجنس (إحساسها بأنها تمارس الجنس مع الجن) وضلالات الغيرة (الشعور بأن زوجها يخونها مع امرأة أخرى)، وضلالات دينية (تعتقد أن الملائكة ارسلوها للناس لإصلاحهم دينياً).
 
ومن أخطر التوهمات، هي الضلالات ذات المضمون السيء المتعلقة بالوليد، مثل: اعتقادها أن وليدها مشوه أو ميت، أو أنه شيطان، أو أن آلهة أو رسولاً أرسل من السماء حاملاً لها رسالة معينة ذات مضمون سيء.
وقد تتنكر للحمل والولادة بشكل عام، مدعية بأنها عذراء وغير متزوجة، أو على النقيض، حيث تعتقد أنها امرأة غير صالحة وفاسدة وسيئة الأخلاق، وأنها تستحق أن يخونها زوجها، أو أنها تستحق الموت.
وأستطيع القول إن الأم المصابة بالذهان معرضة للإصابة بجميع أنواع الضلالات، وخصوصاً الضلالات الزورانية Paraniod (التي تشمل ضلالات الاضطهاد والعظمة) وللحصول على فكرة موجزة عن أنواع الضلالات، راجع مقال "الغيرة المرضية اضطراب نفسي فتاك"، للدكتور جابي كيفوركيان على موقع الطبي www.altibbi.com.
وأما بالنسبة للهلوسة، فإن المريضة عادة تعاني من هلوسات سمعية Auditory من النوع الآمر Command مثل سماعها لأصوات تأمرها بإيذاء طفلها أو إيذاء نفسها أو الناس من حولها.
وفي حال معاناة الأم من توهمات أن الشيطان يتلبس طفلها، إضافة الى سماعها لأصوات تأمرها بقتل طفلها أو قتل نفسها، فإن العواقب تكون وخيمة لا محالة. وتسمى ظاهرة قتل الأم لطفلها علمياً Infanticid.
 
وقد أشارت إحدى الدراسات التي أجريت في الغرب، الى أن خمسة في المئة من الأمهات المصابات بذهان النفاس قد انتحرن، وأن أربعة في المئة أقدمن على قتل أطفالهن.
 
وخلال حياتي المهنية عشت وسمعت عن بعض حالات ذهان النفاس التي نجحت فيها الأم بقتل وليدها أو بالانتحار.  وقد حاولت عام 2001 (الدكتور جابي كيفوركيان) القيام بدراسة للتوصل الى نسبة انتحار الأم أو قتلها لوليدها الشرعي خلال فترة النفاس، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة، غير أني فشلت في اتمام هذه الدراسة، وذلك لأسباب اجتماعية ودينية ولحساسية الموضوع بشكل عام.  غير أني استطعت الخروج بنتيجة جديدة مفادها أن الهلوسة السمعية في فترة النفاس قد تكون على شكل كلام موجه مباشرة وشخصياً الى الأم نفسها، مثل: "أنت عاهرة" أو "أنت فاشلة".  كذلك فقد استطعت التوصل الى أن الهلوسات أحياناً قد تكون من النوع البصري Visual، مثل رؤية الأم لوحوش وحيوانات لا وجود فعلي لها.  غير أن الهلوسة البصرية غير شائعة كما هي الحال مع الهلوسة السمعية.
 
ومن الأعراض والعلامات العضوية الشائعة في فترة النفاس، هي: عدم مقدرة الأم على الحركة أو النهوض من الفراش أو السير والانتقال من مكان الى آخر.
 
وكما هي الحال في جميع الحالات والاضطراب النفسية المختلفة، وكي يتم تأكيد التشخيص، فإنه إضافة الى الفحوصات النفسية يجب إجراء فحوصات مخبرية وجسدية للمريضة لنفي وجود أسباب عضوية تقف وراء ذهان النفاس، لأن هنالك حالات عضوية تؤدي الى حدوث ذهان، مثل: قصور الغدة الدرقية Hypothyroidism ومتلازمة "كوشينك" Cushing’s Syndrome والإدمان أو الإكثار من تناول الأدوية المسكنة للألم مثل: Pentazocine و Oxycodone أو نتيجة الإكثار من تناول الأدوية المضادة لارتفاع ضغط الدم الشرياني أثناء فترة الحمل.  كذلك يجب أن لا يغيب عن ذهننا أن العدوى (الخمج) Infections وتسمم الدم Toxemia والأورام (الحميدة والخبيثة)، كلها قد تؤدي الى إصابة الأم بالذهان.
 
ويجب تفريق وتمييز الذهان الناتج من هذه الحالات عن ذهان النفاس، وذلك لأن علاجهما يختلف اختلافاً كلياً.
وأما أسباب ذهان النفاس فتتمثل في الأسباب المذكورة في مقدمة المقال (الأسباب الهرمونية والنفسية..) إضافة الى بعض الأسباب المحددة، مثل: وجود تاريخ مرضي يشير الى أن الأم سبق واصيبت بالاضطراب ثنائي القطب، أو بنوع معين من أنواع الذهان (قبل أن تتزوج أو قبل أن تحمل).  أو في حال كون هذه ليست المرة الأولى التي تصاب بها بذهان النفاس. 
 
وقد أشارت العديد من الدراسات الى أن 51 في المئة من النساء المصابات بذهان النفاس، لهن أقارب عانوا أو يعانون من اضطراب مزاجي، ما يوحي بوجود عامل وراثي لذهان النفاس.
كذلك فإن كون المرأة بكرية تكون معرضة للإصابة بذهان النفاس أكثر من غيرها من النساء بنسبة 55 في المئة.
ومن المحتمل أن تؤدي الولادة بواسطة عملية قيصرية (خصوصاً عند المرأة البكرية) إلى صدمة نفسية شديدة، تدخلها في حالة من الذهان. ويعتقد الكثير من العلماء أن حالات النزيف ما قبل الوضع، أو خلال الوضع، قد تؤدي الى حدوث ذهان النفاس.
ويعتبر ذهان النفاس حالة خطرة وطارئة تستوجب في معظم الحالات إدخال الأم وطفلها الى قسم خاص في مستشفى الأمراض النفسية يدعى "وحدة العناية بالأم وطفلها"، حيث تعمل في هذا القسم ممرضات متخصصات بتمريض الأطفال وبالتمريض النفساني للبالغين.
والهدف من وجود مثل هذا القسم في المستشفى، هو عدم فصل الأم عن طفلها، ليتسنى للعاملين فيه مراقبة الأم وطفلها على مدار 24 ساعة متواصلة، ومساعدتها بالعناية بطفلها.  وفي حال دخول الأم في نوبة نفسية حادة، تقوم الممرضات بالعناية بالطفل وإطعامه الى حين تحسن الأم وخروجها من النوبة.
 
وكما ذكرت سابقاً، فإن معظم حالات ذهان النفاس تكون في صورة اضطراب ثنائي القطب (فترات متعاقبة من الهوس والاكتئاب)، ما يستوجب إعطاء الأدوية المضادرة للذهان في فترة الهوس، والأدوية المضادة للاكتئاب في فترة الاكتئاب، إضافة الى إعطاء الأدوية "المنظمة للمزاج" Mood Stabilizers مثل: "الليثيوم" Lithium و "حامض الفالبرويك" Valproic Acid و "الكاربامازيين" Carbamazepine (علماً أن العقارين الأخيرين يستخدمان أيضاً في علاج الصرع).
 
وأما في حال معاناة الأم من الأرق يمكن إعطاءها "المهدئات الصغرى" Minor Tranquillizers مثل الأدوية من عائلة Benzodiazepines مثل: "ديازيبام" Diazepam و "لورازيبام" Lorazepam و "ألبرازولام" Alprazolam.
وأما في حال عدم استجابة الأم للأدوية المذكورة سابقاً، أو في حال كون فترة الاكتئاب شديدة، فمن الممكن استخدام أسلوب العلاج بالصدمة الكهربائية  ECT.
 
وعادة يبدأ التحسن خلال مدة تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع من بدء تناولها للأدوية، ويتم إرسال الأم مع طفلها الى البيت بعد مكوثها في المستشفى مدة شهر كامل على الأقل، (وهذا يعود الى نتيجة تقييم لجنة مكونة من الأطباء والممرضات والعمال الاجتماعيين).
ويتابع حالة الأم في البيت طاقم مكون من طبيب نفساني وممرضة وعاملة اجتماعية متخصصتين بالصحة النفسية المجتمعية.  حيث يقوم هذا الطاقم بزيارة الأم في مكان اقامتها خارج المستشفى، في فترات متقاربة جداً وذلك للوقوف على مدى قدرة الأم على رعاية طفلها وتقديم النصائح والإرشادات لها ولأفراد عائلتها (الزوج والأم والحماة..)، وتكملة تناول الأدوية لفترة تتراوح بين ستة أشهر وسنة كاملة.  ويجب أن لا ننسى أن الدعم والحب والحنان المقدمة من الزوج لزوجته تلعب دوراً مهماً في سرعة تحسنها وشفائها، وتتعافى معظم النساء من ذهان النفاس، غير أن القليل منهن لا يستجبن للعلاج (نسبة ضئيلة جداً)، ويصبحن مريضات بالفصام Schizophrenia المزمن، وفي هذه الحالة يتوجب عليهن تناول العلاج مدى الحياة.
إن نسبة تكرار الحالة في الولادة التالية تتراوح بين 31 و 51 في المئة، غير أن دراسة أجريت في المملكة المتحدة أشارت الى أن نسبة تكرار ذهان النفاس قد يصل الى ما يقارب 91 في المئة، ما يشير الى ضرورة أخذ الحيطة والحذر وتوفير جميع وسائل الراحة النفسية، ودعم المرأة الحامل عاطفياً دائماً وأبداً.
 
الأدوية والرضاعة
 
اشارت الدراسات الى أن جميع الأدوية المستخدمة في علاج الاضطرابات النفسية والعقلية، والمسماة "الأدوية المؤثرة عقلياً" Psychotropic Drugs تفرز عن طريق حليب الأم، غير أن بعضها لا يشكل خطراً على الوليد، أو يفرز بكمية ضئيلة جداً بحيث لا تؤثر في الوليد مطلقاً.  اما في حال كون هذه الأدوية ضارة بالوليد فمن الممكن تخفيض الجرعة التي تتناولها الأم، بحيث تفرز مع الحليب كمية لا تشكل خطراً على الوليد. غير أنه في حال تعذر ذلك، وفي حال وجود دلائل قاطعة على أن دواء معين يشكل خطراً على الوليد مهما كانت جرعته، أو في حال معاناة الوليد من "ارتفاع نسبة البيليروبين" Hyperbilirubinemia أو كونه خديجاً Premature، يجب امتناع الأم عن الرضاعة الطبيعية واللجوء الى الرضاعة الاصطناعية.  أما في حال رفض الوليد الرضاعة الاصطناعية (لسبب من الأسباب)، أو في حال رغبة الأم الملحة على إرضاع وليدها من ثدييها، فإني أود أن أطمئن القراء الكرام أن جميع الدراسات تشير الى أن إمكانية إصابة الوليد بمضاعفات خطيرة نتيجة تناول الأم للأدوية المؤثرة عقلياً، ضئيلة جداً، ما عدا في الحالات التي يكون فيها الوليد خديجاً أو يعاني من أمراض معينة.
 
وهنا عرض عن كل مجموعة من الأدوية على حدا:
 
مضادات الاكتئاب: أشارت جميع الدراسات الى أن جميع الأدوية المضادة للاكتئاب لا تشكل خطراً على الوليد من خلال الرضاعة الطبيعية، وأكثر هذه الأدوية التي تم دراستها هي الأدوية المضادة للاكتئاب "ثلاثية الحلقات" Tricyclic، وتحديداً الأدوية التالية: "فلوكسيتين" و "سيرترالين" و "باروكسيتين".  وأشارت نتائج الدراسات الى أن كمية الدواء التي يتعرض لها الوليد من خلال حليب الأم ضئيلة جداً لدرجة أنها لا تشكل خطراً عليه مطلقاً.
الأدوية المنظمة للمزاج: أشارت العديد من الدراسات الى أن الأدوية المنظمة للمزاج المختلفة، تؤدي الى تأثير سام على كبد الوليد من خلال حليب الرضاعة.  لذلك يفضل اللجوء للرضاعة الاصطناعية في هذه الحالة، غير أن هنالك العديد من النساء اللواتي يرغبن في إرضاع أطفالهن رضاعة طبيعية. وقد اختلف الأطباء بخصوص عقاري "حامض الفالبرويك" و "الكاربامازبين"، فمنهم من منع الرضاعة الطبيعية في حال تناول الأم للعقارين المذكورين منعاً باتاً، ومنهم من صرح به، شريطة إجراء فحوصات مخبرية دورية لمستوى هذين العقارين في دم الوليد إضافة الى وظيفة الكبد.  غير أن كاتب هذا المقال (الدكتور جابي كيفوركيان) يفضل لجوء الأم للرضاعة الاصطناعية، لأن معظم الدراسات التي طالعها بهذا الخصوص أشارت الى أن هنالك خطراً أكيداً قد يصيب الأطفال تحت سن سنتين من العمر بتسمم الكبد من جراء دخول "حامض الفالبرويك" و "الكاربامازبين" أجسامهم عن طريق حليب الأم.
 
وأما بالنسبة لدواء "الليثيوم" فيمكن إعطاؤه للأم في حال أصرت على الرضاعة الطبيعية (مع أنه يفضل اللجوء للرضاعة الاصطناعية)، شريطة أن يعطى لها بجرعة منخفضة جداً قدر المستطاع، ويجب إجراء فحوصات دورية لنسبة "الليثيوم" في دم الأم وفي دم وليدها، بحيث يكون في مستوياته المسموح بها، إضافة الى فحوصات مخبرية روتينية لوظيفة الكبد والكلى والغدة الدرقية Thyroid Gland عند الطفل كل 4-5 أسابيع.
 
ناهيك على أن طبيب مختصاً بأمراض الطفولة يجب أن يقوم أيضاً بشكل دوري بمراقبة العلامات السريرية المرضية للطفل التي تكون ناتجة عن التسمم بالليثيوم، مثل: انخفاض درجة حرارة جسم الطفل، وانخفاض التوتر (القوة) العضلي Hypotonia والازرقاق Cyanosis. وفي حال وجود أدنى شك في حدوث مثل هذه العلامات، يجب التوقف فوراً عن إرضاع الطفل وفحص دمه للتأكد من مستوى الليثيوم في جسده.
 
الأدوية المضادة للذهان: أكدت جميع الدلائل على أنه يمكن للأم المرضعة تناول الأدوية المضادة للذهان Antipsychotic لكن بحذر، علماً أن الدراسات في هذا الشأن ما زالت محدودة، وخصوصاً بالنسبة للأدوية المضادة للذهان الحديثة.
وقد أشارت بعض الدراسات الى أن هذه الأدوية تؤدي الى انخفاض عدد كريات الدم البيضاء في الدم.
 
الأدوية المضادة للقلق: وكذلك الأمر بالنسبة للأدوية المضادة للقلق Anti-anxiety إذ أن جميع الدلائل تشير الى أنه يمكن للأم المرضعة تناول هذه الأدوية لكن بحذر وبالكمية الدنيا.
 
 
وإليكم من الطبي أيضاً: